سأخبركم عن أحد المشاهد المعتادة والمتكررة في حياتنا اليومية في أماكن تواجد الأطفال، أطفال مخدرون أعيُنهم الحمراء مثبتة على الشاشة التي أمامهم، أيديهم ترجف، لا يبدون أي تفاعل مع ما حولهم، تستطيع إطعامهم أو تمشيط شعرهم أو حتى نكزهم دون إبداء أي رد فعل من قبلهم، مشهد دائم في عيادات الأطباء، مراكز التسوق، السيارات المتحركة إلى جانبنا، مشهد طبيعي ولا يُشكل أي مشكلة، صحيح؟ يتعرض الطفل لمقاطع مختلفة مليئة بالضجيج والألوان والرقصات الغريبة وصور الحلوى والسكريات وغيرها، وبعض المقاطع العنيفة واللا أخلاقية حتى لمن هم أكبر سناً، نقوم باستغلال انجذاب الطفل للألوان والصور بتجميده ريثما ننهي مهامنا. (لقراءة المزيد: بهذه الطريقة يمكنك إقناع طفلك أن يطفئ التلفاز بكل هدوء!) استوقفني منذ فترة سؤال لإحدى الأمهات على مجموعة من مجموعات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالأمهات، وكان السؤال كالآتي" أيها الأمهات العزيزات، لدي طفلة عمرها ثلاث سنوات تتابع بشكل يومي برنامج على "يوتيوب" من خلال هاتفي النقال لساعات طويلة، بعد مرور بعض الوقت بدأت أشعر أنها تغضب بسرعة ولا أستطيع التفاهم معها كما أنها شاردة الذهن طوال الوقت، هل تظنون أن ما تشاهده له تأثير على تصرفاتها؟" وقفت حائرة أمام هذا السؤال، هل هي حقاً لا تعرف الإجابة؟ تبدو أماً مهتمة جداً بطفلتها وتلاحظ جميع التغيرات التي تظهر عليها لكنها لا تعي أبداً خطورة مشاهدة الشاشات بكافة أنواعها على طفلتها، لذلك وجدت أنه عليَّ جمع كل ما أعرف عن هذا الموضوع هنا علَّني أكون سبباً في تغيير حياة طفل ما من هذه الناحية. ما نعرفه حتى الآن كقاعدة عامة عن عدد الساعات المسموح للأطفال مشاهدتها خلال اليوم هي " الأطفال تحت سن العامين لا يجب أن يشاهدوا الشاشات أبداُ مهما كان نوعها، وبعد سن العامين يُسمح بساعة واحدة فقط" وهذا حتى لا تؤثر هذه الشاشات على التطور الوظيفي لدماغ الطفل. لكننا في أيامنا هذه نشاهد الأطفال حتى في عمر الأشهر متسمرين أمام الهواتف النقالة لمشاهدة المقاطع المختلفة وذلك إما بهدف اللعب أو إلهاء الطفل لأي سبب من الأسباب، وهذه هي الفئة التي أرغب بالتركيز عليها، فإن دماغ الطفل في أول سنتين من حياته يتطور بشكل سريع ومستمر ويحتاج للكثير التجارب الحياتية والحسية واللعب والقراءة لإتمام نموه بالشكل الأمثل، وإن تعريضه لهذه الشاشات يُعطل نمو دماغه بالشكل السليم وهذا يؤثر على العديد من الجوانب في حياة الطفل. في دراسة أجريت على الفئران تم تعريض مجموعة من الفئران في بداية حياتها لنشاط مشابه للتعرض لأشعة التلفاز لمدة معينة من اليوم لمدة شهر، لاحظ العلماء أن الفئران التي تعرضت لأشعة مشابهة لأشعة التلفاز تحركت بطريقة غير طبيعية وسريعة وغير منظمة ومختلفة عن الفئران الذين لم يتعرضوا للشاشات في بداية حياتهم، كما أنهم قد فقدوا الإحساس بالخطر في البيئة المحيطة بهم. تؤكد الدراسات على أن كل ساعة يشاهد فيها الطفل الشاشات قبل سن السنتين تزيد احتمالية الإصابة بفرط الحركة وتشتت الانتباه بنسبة 10% عندما يتم السبع سنوات من عمره، وهذا هو ما نعرفه حتى الآن، أي أننا مازلنا بانتظار أن نرى النتائج على أرض الواقع عندما يكبر هذا الجيل الجديد الذي يتعرض للشاشات بهذه الكثافة ومنذ اليوم الأول، كما أننا مازلنا بانتظار المزيد من الدراسات والأبحاث. (لقراءة المزيد: تأثير التلفاز والوسائل الإعلامية على الأطفال الصغار) عند تعريض الطفل في هذا العمر للشاشات بشكل يومي ولساعات طويلة أرجوك لا تستغربي بعدها عدم تركيز طفلك في المدرسة بعد سنوات، ولا تستغربي العلامات المتدنية وتأخر النطق وعدم تركيب الجمل المفيدة، ولا تستغربي المزاج المتقلب ونوبات الغضب المتكررة والشديدة، ولا الاستقياظ المستمر أثناء الليل ونوبات الفزع والأحلام المزعجة، ولا حتى السلوكيات الخاطئة التي ينقلها طفلك كما هي مما يشاهد، فكِّري فقط كم من الوقت قد شاهد طفلي الشاشات اليوم ومالذي شاهده؟ تذكَّري دائماً أن دماغ طفلك في السنوات الثلاث الأولى هو دماغ "ماص" فقط دون أي قدرة على الاستيعاب والتحليل بالشكل الذي نتصوره، إذن عندما يردد طفلك بعض الكلمات والأحرف الإنجليزية التي يحفظها من المقاطع التي يشاهدها فإنه يحفظها فقط دون أن يفهمها ودون قدرة على تركيب الكلمات أو الجمل منها ودون أن تثري حصيلته اللغوية بأي شكل من الأشكال، هو فقط يحفظ دون أن "يفهم". جميعنا نطمح لأن يكون أطفالنا مميزون وأن يستطيعوا تحصيل الدرجات العلمية المرتفعة وأن يكون لديهم من "مهارات التواصل" و"المهارات الإجتماعية" ما يؤهلهم لخوض غمار الحياة بثقة، في الحقيقة لا أعرف أي أم لا ترغب باستغلال طاقات وقدرات أطفالها في كل ما يفيد تطورهم، لكن بتعريضهم للشاشات بهذا المقدار نحن نُحجِّم قدراتهم بشكل كبير جداً دون أن ندري. دائماً أسمع التبرير التالي للأمهات غير المقتنعات بكل الدراسات التي تُنشر حول هذا الموضوع " ابن صديقتي يشاهد التلفاز منذ كان في المهد وهو بخير لا يشكو من شيء" يذكرني هئا الطرح بمن يخبرك أن عمه يدخن منذ خمسين عاماً ولم يصب بالسرطان حتى الآن، هل هذا يعني أن التدخين لا يسبب السرطان؟ حقيقة، لست هنا بصدد إطلاق أحكام على الأمهات وتصرفاتهن مع الأطفال أو التقليل من قيمة المجهود الذي يقمن به، فأنا أعي أن كل أم تقوم بكل ما في وسعها مع أطفالها، لكنه من الضروري أن نقوم بالتركيز على هذا الموضوع لأهميته... فأنا أم لطفلة كانت تتعرض للشاشات بشكل يومي لعدة أشهر دون أن أتوقع الأثر الذي سيتركه هذا الأمر عليها، لكنني شاهدت كل ما حدثتكم عنه بأم عيني معها، عندما قررت التوقف عن تعريضها للشاشات بدأت صغيرتي بنطق كلمات جديدة، وتحسن نومها بشكل كبير، بدأت بالتركيز في كل ما تفعله، بعد عدة أشهر شعرت أنني أنقذت طفلتي من خطر وشيك جداً، تمنيت حينها لو أنني كنت أعرف هذه المعلومات سابقاً لأنني كنت سأفكر ألف مرة قبل تسليمها جهازي النقال. أنا أعلم كم هو صعب أن لا يتوقف طفلك عن البكاء في مكان عام، أو أن لا يتوقف عن القفز والركض والاستكشاف عند الخروج من المنزل، وأعلم أنك تتمنين في بعض الأحيان لحظة من الهدوء أو أن تتمكني من إتمام مهامك بسرعة لكن تذكري دائماً أن أطفالك هم استثمارك في الحياة وعندما تحافظين على تطورهم بشكل سليم فإنك سترين النتائج جلية في المستقبل، سيتحول التعب والمجهود الذي بذلته في طفولتهم إلى فخر ليس له حدود.